مثلت عودة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى أرض الوطن يوم 8 سبتمبر 1949 نقطة تحول حاسمة في مسار الحركة الوطنية، فقد كانت هذه العودة نتيجة لتقاطع جملة من العوامل الذاتية والموضوعية، التي كشفت عنها بوضوح التقارير الأمنية الفرنسية التي سعت لتحليل دوافع "الزعيم المؤسس" بعد غياب دام أربع سنوات في الشرق. لقد كان صالح بن يوسف وأنصاره، الذين قادوا الحزب بـ "سياسة الحرب الباردة" الهادئة، أكثر من يخشى هذه العودة التي هددت استراتيجياتهم ودفعت الحزب الذي كان على "وشك انفجار داخلي رهيب" إلى أتون الصراع العلني.
(الحبيب بورقيبة في الشرق مع ثلة من المناضلين و السياسيين المغاربة و المصريين)
1. فشل مهمة تدويل القضية في الشرق
أول وأبرز الدوافع كانت تتلخص في فشل مهمة بورقيبة في المشرق العربي، وهي المهمة التي غامر من أجلها بالهجرة في مارس 1945 وكانت تهدف بالأساس إلى تدويل القضية التونسية عبر منظمتي الجامعة العربية والأمم المتحدة. هذا الفشل كان نسبياً ولكنه كان حاسماً في تقدير بورقيبة، وتجلى في عدة نقاط:
- عجز الجامعة العربية: لم يتمكن بورقيبة من الضغط أو التأثير على الجامعة العربية، بالرغم من علاقته القوية بأمينها العام عزّام باشا. كان الانشغال الكلي للجامعة بـ القضية الفلسطينية وهزيمة 1948 يمثل عائقاً ضخماً أمام الاهتمام بقضايا المغرب العربي. وقد أشار تقرير أمني إلى أن "تداعيّات القضيّة الفلسطينية أفضت إلى انقسام الدّول العربية... وعدم قدرتها على الاهتمام بقضايا المغرب وتونس".
- خلافات مكتب المغرب العربي: تفاقمت المشاكل التنظيمية والسياسية في القاهرة نتيجة الخلاف الحاد بين بورقيبة والأمير عبد الكريم الخطابي، الذي أفضى إلى تجميد عضوية بورقيبة في لجنة تحرير المغرب العربي. كما ساهم الخلاف الداخلي مع الحبيب ثامر (أمين مال المكتب) وادعاءات تحويل الأموال التي روجها محي الدين القليبي في إضعاف العمل السياسي للمكتب.
- لامبالاة القوى الكبرى: برز عجز بورقيبة عن تدويل القضية في الأمم المتحدة، رغم سفره إلى الولايات المتحدة. كانت لامبالاة الأنجلوساكسون (الولايات المتحدة وإنجلترا) ناتجة عن التحالفات الجديدة في سياق الحرب الباردة، حيث لم تكن مصالحهما الاستراتيجية تسمح بمعاداة فرنسا التي كانت حليفاً رئيسياً ضد المد الشيوعي. هذا الإدراك القاسي بعدم جدوى "التعاون من الخارج" دفعه إلى القناعة بـ "التفاهم مع فرنسا حول المطالب التونسية الأساسية".
هذا الإخفاق دفع بورقيبة إلى مراجعة استراتيجية وسياسية، قادته إلى الاستنتاج بأن الحلول يجب أن تُبحث على الأرض بالاحتكاك المباشر مع سلطة الحماية، وهو ما عززته التقارير الأمنية الفرنسية التي رأت أن "المغامرة المصرية" لم تزد الزعيم إلا ميلاً نحو الاعتدال والبحث عن "حلول وسطى مع فرنسا".
2. هاجس الزعامة المهددة والانقسام الداخلي
لم يكن الدافع خارجياً فقط، بل كانت هناك دوافع ذاتية وحزبية ملحة تتعلق بـ إنقاذ زعامة الحزب التي أصبحت مهددة فعلياً في الداخل. كان هذا الهاجس هو الدافع الأقوى الذي دفع بورقيبة لاتخاذ قرار العودة:
- صعود التيار اليوسفي وتهديد الزعامة: أظهر مؤتمر دار سليم (أكتوبر 1948) والمجلس الملي (أوت 1949) صعوداً قوياً لـ التيار اليوسفي بقيادة صالح بن يوسف، الذي تبنى استراتيجية "الحرب الباردة" التي تتناقض مع فكر بورقيبة في العمل المباشر والتحركات الشعبية. انتشرت إشاعات (والتي صدقتها الدوائر الأمنية) حول المطالبة بإزاحة بورقيبة، وظهر الانقسام ليس فقط بين القيادات بل امتد إلى قواعد الحزب في الشعب.
- حرمان بورقيبة من الصلاحيات: جاءت قرارات مؤتمر دار سليم لتؤكد هذا التهديد، حيث صُودق على سياسة الحزب الماضية (التهدئة)، والأخطر من ذلك هو حرمان بورقيبة غير المباشر من صلاحية التصرف في مال الحزب، واختيار شخصيات معارضة له مثل الحبيب ثامر في الديوان السياسي. وقد أكد تقرير أمني أن عودة بورقيبة لم تتم إلا "تحت طلب ملح من شخصيّات تونسيّة ورؤساء شعب دستوريّة" شعروا بأن زعامته أصبحت مهددة.
- الأزمة المالية والاطمئنان اليوسفي: رغم تضارب المعطيات حول الأزمة المالية التي عاناها بورقيبة، إلا أن عدم إرسال المنجي سليم الأموال الكافية لبورقيبة ورفضه مدّه بالمزيد، في الوقت الذي كانت فيه الحالة المادية لصالح بن يوسف "مترفهة"، كانت مؤشراً على عدم رغبة قيادة الداخل في عودة الزعيم، ما زاد من قلق بورقيبة ودفعه لإرسال علالة العويتي سراً لجمع المعلومات والأموال في صائفة 1949.
3. التوافق الضمني مع فرنسا والهدف المزدوج للعودة
يشير الاستنتاج الأكثر منطقية وواقعية إلى أن العودة لم تكن مجرد قرار شخصي، بل كانت مدبرة ومُسهّلة من جهات فرنسية، بالرغم من معارضة المقيم العام. إن فرضية عقد اتفاق بين بورقيبة والقنصل الفرنسي في القاهرة، التي أوردتها التقارير الأمنية، وإن لم تجد دليلاً قاطعاً، تظل قائمة، خاصة وأن تسهيل وزارة الخارجية الفرنسية لعودته كان يخدم هدفاً مزدوجاً:
- إضعاف الحزب عبر الانقسام: كانت الحكومة الفرنسية واعية تماماً بالصراع الزعامي القائم بين بورقيبة وبن يوسف، فرأت في عودة بورقيبة فرصة سانحة لـ "بثّ الانقسام" في صفوف الحزب وإشعال "فتيل الفتنة" لتقويض أركانه وإضعاف شوكته.
- التفاوض مع الزعيم الشعبي: رأت جهات فرنسية أن بورقيبة، الذي "يعي بالحقائق والمصالح الدولية" ويتمتع بـ شعبية هائلة، هو الزعيم الوحيد "المخوّل للتنسيق مع فرنسا" والبحث عن تفاهم "معقول" يحافظ على الحقوق الفرنسية المكتسبة، وهو ما دعمته أيضاً المواقف الإيجابية للباي محمد الأمين الذي كان في حاجة إلى دعم حزبي وشعبي لشرعنة حكمه المشكوك فيه.
خلاصة القول: إن عودة الحبيب بورقيبة عام 1949 كانت رداً استراتيجياً على فشل أو إفشال مهمته الخارجية في تدويل القضية، ورغبةً قوية في إعادة السيطرة على زعامة الحزب التي باتت مهددة من التيار اليوسفي. هذا القرار، الذي تزامن مع رغبة فرنسية في استغلال الانقسام، لم يأتِ بهدف الاستسلام، بل كان يهدف إلى تغيير استراتيجية النضال من الضغط الخارجي غير المجدي إلى العمل المباشر على الأرض، وحسم الصراع الزعامي الذي بات شرطاً ضرورياً لتوحيد صفوف الحركة الوطنية قبل أي مفاوضات قادمة. لقد كانت هذه العودة هي الإعلان الرسمي عن بدء الصراع اليوسفي البورقيبي الذي سيحدد مسار الحركة الوطنية التونسية في العقود التالية.
د. حسن النجار
أبرز المصادر و المراجع:
أولاً: الأرشيفات والوثائق الرسمية
- الأرشيف الوطني التونسي (سلسلة: الحركة الوطنية، الصندوق: 55، الملف: 3) : مجموعة من التقارير والمذكرات الأمنية الفرنسية الصادرة عن الدوائر الأمنية في تونس خلال عام 1949، المتعلقة بتحليل أسباب عودة بورقيبة والانقسام الحزبي./ وثائق من أرشيف الإقامة العامة الفرنسية في تونس، تتناول الجوانب المالية للصراع بين بورقيبة وصالح بن يوسف، وتفاصيل التوتر بينهما.
- Mitterrand (François)Article d'analyse intitulé : « La politique française en Afrique du Nord », publié dans la revue Preuves en 1953, révélant le rôle français dans la facilitation du retour de Bourguiba.
- Chaibi (Mohamed Lotfi)Étude analytique intitulée : « A propos du retour d'exil du leader Bourguiba, le 8 septembre 1949:L’enjeu et le dessous d'un retour inopiné », publiée dans la Revue d'histoire Maghrébine en 2019.
ثانياً: المطبوعات والدراسات الأكاديمية
القصّاب (أحمد) كتاب: تاريخ تونس المعاصر (1881-1956)، ترجمة حمّادي السّاحلي، تونس، 1986.
الشايبي (محمد لطفي) دراسة موسعة عن الحركة الوطنية التونسية والمسألة العمالية النقابية 1952
– 1956.
النجار( حسن)، المعارضة اليوسفية، صراع زعامات أم صراع خطط و استراتيجيات، أطروحة دكتوراه، كلية العلوم الإنسانية و الإجتماعية، تونس 2020.
_%D9%88%D9%85%D8%B9%D9%87_%D9%88%D9%81%D8%AF_%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A_%D9%8A%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%86_%D8%AD%D8%B3%D9%86_%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7_(%D8%A3%D9%82%D8%B5%D9%89_%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%A7%D8%B1).png)